مقالات

عبندة يكتب: ذكريات عراقية.. مقاهي بغداد

نشامى الاخباري_ مدونة ماجد عبندة

على امتداد شارع الرشيد وقليلا في شارع السعدون وابي نواس تتوزع المقاهي البغدادية القديمة كل له سمة قد لا تجدها في غيره وكل له مرتادون لا يرتادون غيره ، في ثمانينات بغداد كانت لي عادة جميلة وهي التمتع بالمشي في شارع الرشيد والتي كانت تستغرق من ساعتين إلى ثلاثة حسب الجولات البينية والتوقف في أماكن لا يمكن تجاوزها بسرعة ، كانت تلك العادة تمنحني الفرصة للتعرف على قلب بغداد النابض وتاريخها الممتد منذ العباسيين والعثمانيين وأيام الانتداب والملكية انتهاء بأيام الجمهوريات المتصارعة وايامها الدامية .
في تلك الايام شاهدت آثار صاروخين انفجرا ، أحدهما ببناية مصرف الرافدين فاحدث في البرج الطويل ثقب كبير والآخر كان من نصيب الجمعية الاستهلاكية قي بداية شارع الرشيد من الباب الشرقي فدمرها تماما . كانت الصواريخ طويلة المدى تأتي من الشرق لكن مصدرها كان عربيا للأسف ، شهد شارع الرشيد الكثير من الأحداث وقامت به المظاهرات والاغتيالات والاجتماعات السرية ، في ذلك الشارع كنت تاكل وتشرب وتتحلى وتلبس ، تتسوق من الغالي للرخيص ، فيه تصلي وتدخل السينما ، فيه تسمع صوت القرآن و المقام و الموسيقى . في هذا الشارع كان يتمشى الخليل بن أحمد فعرَّج على سوق النحاس (الصفافير) فاوحت له دقات النحاسين ببحور الشعر العربي .
مقاهي شارع الرشيد ليست كاي مقاهي فقد كانت ملتقى السياسين والادباء والشعراء وحتى طلاب العلم لم يكن الجلوس فيها بالدقائق بل كان بالساعات تجد مجموعة تشرب الشاي واخرى تدخن الارجيلة ومجموعة شيّاب يلعبون الدومنة وآخرين يتبارون بالطاولي (طاولة الزهر) اما ورق اللعب (الشدة) فقد كانت ممنوعة . تكاد لا تسمع صوتا الا صوت قطع الدومنة وهي ترقع على الطاولة يرافقها صوت يوسف عمر يصدح : (مالي شغل بالسوق مريت اشوفك) .
بعد الغروب في مقهى قريب تدخله تحسب نفسك في مكتبة الجامعة فالطلاب ما يزالون يلبسون الزي الموحد فقد غادروا الجامعة مباشرة للمقهى دون المرور بالبيت وهناك يأكلون ويشربون ويدرسون ، في فترة الامتحانات لا تجد كرسيا او طاولة فارغة وصاحب المقهى يعطي تعليماته لصبيانه ان اعملوا بهدوء فـ (الشباب عدها امتحان) ، كانت بعض المقاهي مخصصة للمصريين او السودانيين وبعضها للمحامين و (المعقدين) وغيرهم .
بالرغم من ان اسمها مقهى الا ان القهوة لا مكان لها بوجود المشروب الوطني المعتمد في كل الأوقات وهو الشاي الثقيل والذي يعد في (السماور) حكما ويضاف له الماء المغلي للتخفيف . كان يقال لنا أن العراق اكبر دولة مستوردة للشاي في العالم وكنت أصدق لان كمية الشاي (الحل) التي كانت توضع بالـ (قوري) تكفي لإعداد قدر كبير من الشاي .
مقهى الشابندر الواقع قرب القشلة و سوق السراي وشارع المتنبي ما زال يحتفظ بطابعه القديم تملؤه الصور المعلقة على الجدران ويرتاده الاف الناس يوميا ليشربوا الشاي بالليمون ويتحدثون مع صاحبه محمد الخشالي
الذي تركه قبل أيام بعد أن أمضى ٥٥ عاما يستقبل فيه كبار المسؤولين وصغار المواطنين .
قال لي زميلي عمر (الشاب الشيعي) : اننا كنا نعقد اجتماعاتنا الحزبية في المقاهي ونأتي برقية (بطيخة) نتناولها اثناء الاجتماع لكي لا نلفت الانتباه . قلت له وكم كان عمرك حينها ؟ قال : لا لم أكن مولودا لكنهم حدثوني .
مقاهي بغداد جزء من ذاكرة المدينة التي لا تمحى ، مدينة مثل بغداد ذاكرتها كبيرة جدا وقلبها يسع الجميع فهي بحق دار السلام.

 

اظهر المزيد
الداعمون:
Banner Example

نشامى الاخباري

نشامى الإخباري" هو موقع إخباري أردني متميز يقدّم لكم أحدث الأخبار المحلية الأردنية والعربية، نسعى جاهدين لتقديم محتوى إعلامي مهني وموثوق يساهم في توعية القرّاء وتوفير تحليلات موضوعية وشاملة للقضايا الراهنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *