نشامى الاخباري _ أحمد طناش شطناوي / رئيس فرع رابطة الكتاب الأردنيين -إربد
لقد حمل خطاب جلالة الملك عبد الله الثاني أمام ممثلي الأمة رسالة للوطن والجيش والشعب والإنسانية، فكان خطابه تأسيسًا لتجديد الوعي الوطني، وتذكيرًا بأن الدولة الحقيقية لا تُقاس بعمرها، بل بقدرتها على تجديد ذاتها في وجه الأزمات؛ وتجلى ذلك في قول جلالته: «هذا الوطن الذي كان قدره أن يولد في قلب الأزمات»، لقد رسم جلالته للفلسفة السياسية الأردنية ملامحها الجوهرية، فالهوية هنا تنشأ من التحدي، لا من الرفاه، ومن الصعود رغم الجراح.
ويقدّم الملك في خطابه تصورًا لقيادة لا تتعالى على شعبها ولا تتخفى خلف لغة رسمية صامتة؛ بل قيادة تنطق بضمير الناس، وتعترف بأن المسؤولية شعور قبل أن تكون وظيفة؛ فحين صرّح جلالته: «نعم، يقلق الملك، لكن لا يخاف إلا الله»، فقد أعاد جلالته بهذه العبارة تعريف علاقة السلطة بالقلق الإنساني، الحاكم حسب وصف جلالته هو الشريك الذي يحمل همّ المصير؛ فهو الذي يخاف الله في شعبه، ويستمد ثقته منهم فقلبه الذي يقول: «ولا يهاب شيئا وفي ظهره أردني»؛ وفي هذه الجملة تتجسد الفلسفة الأخلاقية للقيادة في الأردن؛ فالسلطة السياسية قوة مستمدة من الشعب ولأجله.
ثم يضع الملك الإصلاح في مكانه الصحيح، فصورها بالواجب الوجودي للدولة كي تبقى دولة؛ وتجلى ذلك في قوله: «لا نملك رفاهية الوقت» فهذه العبارة تحمل نقدًا عميقًا لبطء التاريخ حين يتحرك في مؤسسات مترهّلة؛ إن التحديث السياسي، والتحديث الاقتصادي، وتطوير التعليم والصحة والنقل، لا تُطرح كملفات حكومية منفصلة، بل كشرط لبقاء الوطن متقدمًا في سباق عالمي لا يرحم المتأخرين؛ وهنا يعلن الملك نهاية مرحلة الاكتفاء بالترقيع، وبداية مرحلة البناء الشجاع.
وفي البعد الإقليمي من الخطاب، تظهر الفلسفة الأردنية في صيغتها الأخلاقية الواضحة؛ فالأردن كما يقول جلالته، «لن يقبل باستمرار الانتهاكات في الضفة الغربية»، وهو «سيبقى إلى جانب غزة الصامدة»؛ وهذه المواقف الظرفية تعبر عن تجسيد حقيقي لدور تاريخي يرى أن كرامة الأردن مرتبطة بكرامة أشقائه، وأن السياسة الخارجية لا يمكن أن تُختزل في ميزان القوى وحده، بل في ميزان القيم أيضًا، لذلك تأتي الوصاية الهاشمية على المقدسات بوصفها أمانة روحية تضمن للقدس وجهها العربي والإسلامي.
وفي حديثه عن الجيش، كان الملك يكتب سطرًا جديدًا في سردية الشرف الوطني؛ حين يصف جلالته نشامى الجيش العربي بـ«رجال مصنع الحسين»، فإنه يربط القوة العسكرية بالشرعية التاريخية والأخلاقية، ويمنح المؤسسة العسكرية دورًا يتجاوز الدفاع عن الحدود، لتصبح الحارس الأول للمعنى الوطني ذاته؛ إن الجيش هو الذاكرة الحيّة والامتداد للبطولة في الوعي الجمعي.
وفي خاتمة الخطاب، تأتي الجملة التي تلخّص كل الفلسفة السياسية الأردنية في معادلة واحدة: «لا خوف على الأردن القوي بشعبه ومؤسساته»؛ وهنا تكتمل الفكرة؛ أن قوة الدولة لا تقاس بمساحة أرضها ولا بمواردها، بل بصلابة نسيجها الاجتماعي، وبقدرتها على الحفاظ على الثقة بين المواطن والدولة؛ فالثقة كما وصفها جلالته عملية بناء مستمرة، تُختبر في الأزمات كما تختبر المعادن في النار.
وبذلك، فإن خطاب الملك يحمل مشروعا فلسفيا يطرح تعريفًا جديدًا للدولة الأردنية؛ دولة لا تتخلى عن مواطنيها ولا تهرب من قدرها، دولة تجعل الإنسان غايتها، والكرامة ركيزة وجودها، والعمل طريق خلاصها؛ إنه خطاب يذكرنا بأن الأردن لم ينجُ من العواصف صدفة، ولن يواصل مسيرته إلا بالفعل والإيمان وتماسك الإرادة الوطنية؛ وبالتالي يبدو الوطن كما يتصوره قائده: مسيرة لا تتوقف، نحو مستقبل يصنعه من يعرف أن التاريخ لا يكتب إلا بأيدي الذين يصرون على البقاء واقفين.