نشامى الاخباري _ كريستين حنا نصر
بعد مرور مائة عام على معاهدة سايكس بيكو والتي وقعت عام 1916م ، وهي معاهدة سرية بين فرنسا والمملكة المتحدة على اقتسام منطقة الهلال الخصيب بين فرنسا وبريطانيا وبمصادقة من الامبراطورية الروسية وايطاليا ، و ذلك بهدف تحديد مناطق نفوذ كل منها في أملاك الدولة العثمانية والتي كانت لها السيطرة على المنطقة آنذاك ونتيجة لضعفها أصبحت تعرف بالرجل الاوروبي المريض .
و بالتالي منذ اتفاقية سايكس بيكو وتقسيم الدول العربية ضمن جغرافيا وفق خرائط جديدة وحتى اليوم ، فقد مرت هذه الدول بعدة صراعات منها العرقية والطائفية لتعيش فترات يمكن وصفها عملياً بعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي والاجتماعي ، وما تزال حتى الان بعض الدول تعاني اقتصادياً ويتزايد فيها المديونية ومعدلات الدين العام ، وتعاني من مشاكل الفقر و البطالة خاصة بين فئة الشباب وتحديداً المتعلمين منهم ، كما أنه ومنذ مرحلة ما يسمى بالربيع العربي وحتى وقتنا الحاضر، فبدلا من الحصول على الحرية والمساواة والسلام في المجتمعات العربية ، استبدل ذلك بالربيع العربي ومظاهراته التي تفاقمت معها الصراعات والحروب في بعض الدول ، و التي تمّ خلالها اسقاط الأنظمة الحاكمة في بعضها ، فمروراً بالعراق واسقاط نظام حكم صدام حسين وحزب البعث الحاكم فيها ، كذلك الامر جرى أيضاً في سوريا بعد اسقاط نظام البعث الحاكم فيها ايضا ممثلاً بالرئيس بشار الاسد البائد ، و ما تبع هذه التطورات والمتغيرات المتسارعة من مستجدات سمتها حالة عدم استقرار من الحروب و التدخلات الخارجية ، وتزايد نفوذ تنظيم داعش في هذه الدول ودخول المنطقة في مرحلة من التطرف وعدم قبول الاخر وحالة اقصاء وقتل وتشريد الاقليات، و على السبيل المثال ما حدث في مدينة الموصل العراقية ، والتي وصلت حد أن أصبحت مدينة شبه مدمرة ، و الان تنتظر هذه الدول وبعد مرور اكثر من مائة عام من معاهدة سايكس بيكو وتقسيمها للمنطقة المزيد من التحديات ، ونلاحظ للاسف واقع من حالة عدم الاستقرار أيضاً في لبنان وهيمنة الحزب المسلح فيها على سيادة الدولة وجيشها ، ناهيك ما تعانيه أيضاً من مشاكل اقتصادية التي وصلت اليها لبنان والتي كانت تُلقب في الماضي بسويسرا الشرق قبل الحرب الاهلية وهو ما يعكس ما كانت عليه من تطور وازدهار .
وتمر المنطقة يومنا هذا في مرحلة حساسة وبالاخص بعد تزايد النفوذ التركي والايراني فيها ، مثل العراق وسوريا ونلاحظ أنها بدأت تشهد استبدال النفوذ الايراني بنفوذ تركي و حالة صراع تركي اسرائيلي على الاراضي السورية وتقاسم النفوذ على اراضيها ، خصوصاً بعد تفكيك وضعضعة احوال الدولة السورية جراء الحرب التي دامت أكثر من 14 سنة والى الان هي ما تزال غير مستقرة سياسياً واقتصادياً ومهددة بتقسيم اراضيها لنفوذ دول خارجية تستغل ضعف وأنهيار الدولة .
دول خرائط سايكس بيكو وبعد أكثر من مائة عام تدخل الان مرحلة عصيبة تشهد اوضاع وحالة عدم الاستقرار ، والتي من الممكن أن تدخل في مرحلة انتقالية من حالها القديم الى حال آخر جديد الى جانب مستقبل جديد من الممكن أن ينسف الخرائط القديمة ويُدخل المنطقة مرحلة جديدة من رسم خرائط جديدة تستبدل ماضي خرائط سايكس بيكو بخرائط وحدود جديدة ، أي شرق أوسط جديد ، وهنا يدخل النفوذ الامريكي على هذه المنطقة والذي لا يؤمن بمعاهدة سايكس بيكو وخرائطها التي قسمت المنطقة ، وبحسب تصريحات توم براك مبعوث ترامب الى سوريا ، والذي غرد على منصة إكس قائلاً : ( منذ قرن من الزمان فرض الغرب خرائط وحدود مرسومة و وصايات وحكماً اجنبياً ، فقد قسمت اتفاقية سايكس بيكو سوريا والمنطقة الاوسع لتحقيق مصالح امبريالية لا من أجل السلام ، وقد كلف هذا الخطأ أجيالاً كاملة ولن نسمح بتكراره مرة أخرى ) .
وهذه الرسائل المبطنة والواضحة في الوقت نفسه توحي بهدف اعادة صياغة المنطقة بنظرة امريكية جديدة ، وحسب التصريحات المختلفة وأبرزها مصطلح ( شرق أوسط جديد ) يختلف بالطبع عن خرائط سايكس بيكو ، وأعتقد أن منطقة الشرق العربي تدخل مرحلة انتقالية بداية ملامحها على ما يبدو عدم الاستقرار واندلاع الحروب المشتعلة والتي مرت وما تزال تمر بها المنطقة حتى الان . لغاية تحقيق الوصول الى مرحلة رسم الخرائط الجديدة لشرق أوسط جديد ، والنظرة الامريكية الى المنطقة وبالاخص في عصر حكم ترامب ، هي استبدال الحروب التي دمرت منطقة الشرق العربي بإزدهار وسلام وبناء وتبادلات اقتصادية بين دول الشرق العربي والعالم ، واعادة بناء المنطقة وتنظيم علاقاتها على اساس السلام والأمن والانتعاش الاقتصادي التنموي والديمقراطية في العالم العربي .
و اعتقد أن مبدأ ومنطلق الانتعاش الاقتصادي سوف يؤدي حتماً الى حل مشكلة البطالة المستشرية في منطقتنا ، خاصة بين فئة الشباب ، خاصة أن هذه الفئة الحيوية تشكل نسبة كبيرة من مجموع عدد سكان هذه الدول ، علماً بأن البطالة ارتفعت بعد أحداث حرب السابع من اكتوبر عام 2023م وتداعياتها ليس فقط في غزة والمدن والقرى الفلسطينية ولكن أيضاً كان لها تداعيات على مستقبل المنطقة ككل . والسؤال هنا هو هل تدخل المنطقة مرحلة ربيع عربي جديد خصوصاً في هذه المرحلة الرمادية غير الواضحة المعالم ، اي بين مرحلتي الخرائط القديمة لسايكس بيكو و رسم الخرائط الجديدة للشرق الاوسط الجديد ؟ . هي بحق اسئلة جوهرية كثيرة تمر على الأذهان ، فهل اذاً ستدخل المنطقة مرحلة تأسيس حكم مدني فيها ، والذي من شأنه اضعاف قوة الاحزاب الدينية في المنطقة أم ان الامر سيكون بالعكس ؟ ، وبالتأكيد سوف تدخل المنطقة في مرحلة إعادة هيكلة باتجاه حكم ديمقراطي تُستبدل فيه منظومة الفساد في المنطقة وعلى وجه التحديد الاحزاب التي تنتهك الدول وتتقاسم الموارد خدمة لمصالحها الخاصة وعلى حساب الشعوب والمصلحة العامة للدولة وسيادتها ، أي لا مجال هناك لأي ازدهار في المنطقة بدون مكافحة الفساد الذي يُعيق الاستقرار والديمقراطية والسلام والتقدم في شتى المجالات .
والسؤال الابرز وبعد هذا الطرح هو ، هل هذه الشعوب تعرف حقاً كيف تقرر مصيرها وتضع أهدافها ؟، وهل تسعى عملياً الى تحقيق مبدأ المواطنة الايجابية وتهدف الى ترسيخ حكم مدني يحترم فعلياً كل المكونات ، و بشكل يحترم ظاهرة الاختلاف في العقائد ، ويكون الجميع متساوين في الوطن ، هدفهم وغايتهم الاسمى هي مصلحة الوطن المشترك بينهم ، وهمهم رفعته وتقدمه ، والعمل الجماعي نحو القضاء على النزاعات بين الهويات الدينية والطائفية والعرقية ، والتي أصبحت طاغية بوضوح على خرائط سايكس بيكو القديمة للشرق الاوسط ، واستبدالها بدول مدنية ديمقراطية حقيقية ؟ .
حيث أننا نجد أن ابرز الدول المدنية هي التي تجمع كل المكونات الوطنية على مفهوم المواطنة الواحدة ، أي تعتمد التكافل والعدالة في الفرص بين الشعوب وتضمن نفس الحقوق والواجبات للجميع ، ولا اختلاف بين الافراد الا بفارق الكفاءة العلمية على اختلاف مجالاتها وعلى قدر ما يتمتع به الفرد من الخبرة والتي تؤهل المواطن وتحدد دوره ، اي مبدأ المساواة وليس احتكار المكاسب لصالح فئة على حساب أخرى ، وهذا المخاض الذي تمر به منطقة الشرق العربي ، السؤال هنا ، ماذا سيولد منه وينتج عنه بالنهاية ؟، فأي شكل وصيغة سيكون حكم الدولة ، فهل هو حكم مدني حقيقي يُنفذ ويطبق على أرض الواقع ، أم ان المنطقة ستستمر في العيش في مناخ حروب عرقية وطائفية تستمر معها حالة أضعاف الدول وتقسيمها جغرافياً وعرقياً . أعتقد أن منظومة التعليم تلعب بكل تأكيد دوراً كبيراً في مسألة صقل مستقبل هذه الشعوب ، فهل سوف تنجح في استبدال التطرف وعدم قبول الاخر المختلف عرقياً ودينياً وقومياً ، في الوصول الى مبدأ المواطنة الحقيقية واحترام الاختلاف والاتجاه نحو وحدة الصف لبناء مجتمعات ودول شعوبها موحدة ، هدفها التقدم والازدهار ورفعة الاوطان ، أي بناء شرق أوسط جديد خالٍ من الصراعات والحروب التي انهكت الشعوب وأضعفت بنيان الاوطان .
وفي الختام أتمنى أن تستقر منطقة الشرق العربي وتدخل مرحلة جديدة من السلام ، اي سلام النفس والمحبة بين شعوب المنطقة ، آن الاوان ان نلتفت وبكل جرأة واخلاص وطني نحو بناء مستقبل شرق اوسط جديد خالٍ من النزاعات ، وان يكون شعاره وملامحه هي الازدهار بحكم مدني عادل ديمقراطي حقيقي ، يحفظ حقوق جميع مكونات الدولة ، وفق مبدأ المساواة والتعددية . و أنا على أمل ان يحل السلام والأمن والأمان لمنطقة الشرق العربي التي عانت عقود من عدم الاستقرار وانعدام الوفاق المأمول .