تَنَقَّلنا بالسُّكْنى فترةَ طُفولتي بين مضاربِ بعضِ العشائر البَلقاويَّة العزيزة “الحديد، والحويان، والحنيطي، والقهيوي، والقطارنة، وأبناء العمومة الرَّقاد“، بحُكمِ قُربِ مضارِبِهم من “دار الإذاعة الأردنيّة” حيثُ كان يعملُ والدي، وكنتُ أرى فَخْرَ أبناء حاراتها بآبائِهم العَسكر، بمختلف رتبهم العسكرية، كما حَفِظْتُ عن جارنا “أبو هاني، عبد الكريم مسلّم الشوبكي“، رحمه الله، الذي قاتَلَ في القدس بالكتيبة السادسة، ما كان يسرِدُهُ لوالدي من قصصِ بطولاتِ وتضحيات الجَيش الأردني في القدس، وحِنكةِ وإخلاصِ القائد “عبد الله التل“، فعشقتُ الجَيش، وعاتَبتُ والدي “رحمه الله” لعدم التحاقه بالجَيش، فقد كان جسمُهُ قوياً، ورشيقاً، وبطلاً رياضياً في القفز الحُر والقفز بالزّانة، لكنّه دوماً يُجيبني أن العمل في “الإذاعة الأردنية” واجبٌ وطني، وهي رديفُ الجَيش، وصار يصطَحِبُني معه إليها؛ فشاهدتُ وسمعتُ في “دار الإذاعة الأردنية” ما وثّقتُهُ لاحقاً بِسِلسلةِ مَقالاتٍ نشرتُها في جريدة “الدّستور” الغَرّاء فوَعيتُ واقْتَنعتُ وافْتَخَرتُ.
“يا بَيِّي قَدّيش” عشقتُ الجَيش، بكلِّ قطاعاته ووحداته وتشكيلاته المَهيبة، وبكلّ أدوارِه وبطولاته وتضحياته المَجيدة، وعشقي هذا جزءٌ من عِشقيَ الأردنّ بكلِّ مُدنه وقُراه وبواديه، وكلّ النّاس فيه من شتّى منابتهم وأصولهم، وكلّ ذرّةِ ترابٍ من تُرابه، وفي كلِّ حالٍ من أحوالِه؛ فأرضُ الأردنّ كُلُّها أرضي، أرضُ الكَرامة وموئِلُ الكَرَم، أرضُ المَجد والتّاريخ والعَلياء، كما وأهلُ الأردنّ من شتّى منابتهم وأصولهم كُلُّهم نَشامى، والنَشامى لا تَفْتَرِقُ وطنيَّتُهم باتجاهات جغرافيا الوطن، وليست وطنيَّتُهم هي موطن ميلادهم، وليست وطنيَّتُهم هي قبيلتهم وعشيرتهم وعائلتهم التي إليها ينتسبون، ولا يُزاوِدُ نَشميٌّ على نَشميٍّ في شيء، فكلٌّ منّا يعلمُ ما قدّمت قبيلتُهُ وعشيرتُهُ وعائلتُهُ للأردن ولفلسطين وللعروبة، وكلٌّ منّا يعلمُ البطولات والتضحيات التي قدّمَها رجالُها والمُصابين والشّهداء فيها، وكلٌّ منّا يعلمُ الإرثَ التّراكمي لأبنائها في الفكر والثقافة والأدب والشّعر والاقتصاد والسّياسة والعلوم والطّب وغيرها، لكنّ فخرنا واعتزازنا ينبغي أن يُتوَّج بأنّ هذا كُلّهُ هو للأردن، لذلك تألّمتُ لتزاحُمِ إنتاجِ أغانٍ تمجِّدُ مدينة ما أو عشيرة ما، كما تألّمتُ لكثرة منصّات الاتصال السّطحية المُغرِضَة، ولتعدّد حسابات التواصل المشبوهة، والتي أسهمت في إثارة النَّعَرات والفِتَن وتَفتيتِ انتماءِ فئاتٍ منّا وتعصُّبها لنفسها على حسابِ الانتماءِ الكلّي للأردن.